توبة الحداد
نقل الحسن البصري انّه قال : مررت في سوق الحدادين
ببغداد ، فوقع بصري على حداد يمد يده في الكورة ، ويمسك الحديد الأحمر الذائب بدون
ان يشعر بحرارته ، ويضعه على السندان ويطرقه بالمطرقة ، ويخرجه بأي شكل يشاء ..
وعند مشاهدتي لهذا الأمر العجيب ، وجدت في نفسي رغبة لسؤاله ، فتقدمت اليه وسلمت عليه
فرد عليًّ السلام ، فسألته : ايها السيّد !.. الاّ تؤذيك نار الكورة ، حر الحديد
المذاب ؟ .. قال : لا . قلت : وكيف ؟.. قال : مرت علينا هنا ايام من القحط والجوع
.. أما انا فكنت قد خزنت كلّ شيء .. وجاءتني ذات يوم امرأة وجيهة الطلعة حسنة
الصورة وقالت : يا رجل!.. ان لي ايتاماً صغاراًَ يتضورون جوعاً ، وهم بحاجة إلى
قليل من الطعام ، واطلب منك ان تهبني شيئاً من الحنطة في سبيل الله ، ولإنقاذ حياة
هؤلاء الصبية .. وبما انني فتنت بجمالها من خلال نظرة واحدة ، قلت لها : إذا كنت
تريدين الحنطة فيجب ان اقضي منك حاجتي .. غضبت المرأة لهذا الكلام واعرضت عني
وذهبت . وفي اليوم التالي عادت اليًّ باكية وكررت ما طلبته في اليوم الاول ، فأعدت
عليها ما كنت قد طلبته منها .. فعادت ادراجها صفر اليدين .. وجاءتني في اليوم
الثالث وهي غاية الأسى وقالت : ان أطفالي على وشك الموت ، فارجوا ان تنقذهم من
الجوع والموت .. فكررت عليها طلبي . ويبدو ان الجوع انهكها فلم تعد لها قدرة على
المقاومة . وعلى كلّ فأنها حين اقتربت مني كانت تقول : ارحمني ايها الرجل انا
واطفالي !.. فنحن جياع وبحاجة إلى قليل من الطعام . فقلت لها : أيتها المرأة لا
تضيّعي وقتي سدىً ، تعالي اقضي منك حاجتي واعطيك الحنطة . وعندها اكثرت من البكاء
وقالت : انني لم ارتكب قط هذا العمل الحرام، ولكني مضطرة الآن لتلبية طلبك لأنني
وأطفالي ما ذقنا الطعام منذ ثلاثة ايام ، ولكن لي عليك شرط . فقلت : ما هو شرطك
؟.. قالت : ان تأخذني إلى مكان لا يرانا فيه احد . يقول الحداد : فوافقت على طلبها
واخليت لها الدار .. وما ان دنوت لأقضي حاجتي منها رأيتها تضطرب ، وقالت : لم كذبت
عليًّ ولم تفي لي بالشرط؟.. قلت : واي شرط هذا ؟.. قالت : ألم تعاهدني على أن
تأخذني إلى مكان لا يرانا فيه أحد ؟.. قلت : نعم ، أليس هذا المكان خالٍ ؟.. قالت
: وكيف هو خالٍ وفيه خمسة يشهدوننا وهم : الله الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي
الصدور ، والملكان الموكّلان بك ، والملكان الموكّلان بي ، هؤلاء كلّهم حاضرون
ويشاهدون عملنا ، ومع هذا أراك واهم ان لا يرانا هنا . خف ربّك يا رجل ، واصرف
شهوتك عنّي ، يصرف عنك حرّ النّار . تنّبهت من كلامها هذا ، وفكرت مع نفسي وقلت :
ان هذه المرأة مع ما بها من جوع وضيق تخاف ربّها إلى هذه الدرجة ، وانا لا اخشى مع
كلّ هذه النعم التي منًّ بها عليًّ ؟ .. تبت إلى ربي من ساعتي تلك ، وتركت المرأة
واعطيتها ما ارادت واذنت لها بالانصراف .. ولما رأت هذا الموقف منّي رفعت طرفها
إلى السماء وقالت : اللهم !.. كما صرف هذا الرجل شهوته عني ، اصرف عنه حر النار في
الدنيا والآخرة .. ومنذ تلك اللحظة التي دعت لي المرأة فيها بهذا الدعاء صرت لا
اشعر بحر النار..
0 علقوا على "قصة توبة الحداد "